dimanche 21 octobre 2012

أيتها العجوز



لست أعرف فيما أنت غارقة هذه الأيام، ولست أعرف من أخبارك قليلا أو كثيرا، ولا أريد أن أعرف من هذا كله شيئا، وما حملني على الكتابة إليك إلا النهوض بواجب الصداقة التي جمعتنا ذلك اليوم الجميل، ولكنه يوم لم يدم أكثر من يوم ثم جدبنا تيار الحياة وضمنا إلى ركب الأحياء الأموات، وعودنا إيقاعه الفاتر الباهت، فليكن خطابي إذا نغما جديدا غير ذلك الذي تسمعينه حولك كل يوم، وليحالفه الحظ ليكون نوعا من التجديد والترفيه، ولا أحسبك من الغرور بحيث تعتقدين منذ الوهلة الأولى أنني سأفاتحك في مشروع حب، لا لم يصل جمالك من السلطان علة قلبي  لتلك الدرجة التي تسطيعي معها أن ترغميني على الحب، أو قولي إنني لم أصل  من الحكمة بحيث أفهم تضاريس جسدك الغامض لتلك الدرجة التي تخولني أن أعشق كما يليق بعاشق، ولا أحسبك من رداءة الذوق بحيث تنتظرين مني أحاديث سوقية لا قيمة، فتوقعي من فضلك شيئا جديد كل الجدة، وخودي وقتك كاملا
وراحتك كاملة لقراءته كما يحلو لك ولا تأخذي نفسك بالمشقة فليس أكره إلى نفسي من أن أشقيك، ولست أرى بأسا من أن تقرئيه وعلى شفتيك ابتسامة فيها القليل أو الكثير من السخرية، فإني أنزل ابتسامتك منزلة الحب وإن كانت ساخرة وأقدرها حق قدرها وإن كنت لم أراها منذ زمن ليس بالقصير، ولست أمانع أن تتساءلي بنوع من التهكم  بعد قراءته ما الذي يخرف هذا الأحمق ؟ كل ما يصدر عن الجميل جميل، فقرئيه الآن أو ضعيه في محفظتك وأجلي قراءته إلى حين تجدين له متسع من الوقت، المهم عندي أن تقرئيه، والمهم عندي ان لا تنهي قراءته إلى آخره الآن بل اقرئي منه ما أشرت عليك أن تقرئي الآن وأبقي ما أشرت عليك أن تبقي إلى حينه، فإني لم أشر عليك أن تقرئيه الآن إلا لأني أعرف أنه لم يحن حينه بعد، وإني لم أبقيه إلى حينه إلا مخافة أن يحين حيني قبل حينه. 
هذا الخطاب لا يتكلم عنك كما توقعت، ولا يمسك من قريب ولا من بعيد كما سول لك الظن، وهنا قد يخطر لك سؤال وجيه أقرك عليه، إن كان هذا الخطاب لا يعنيك ففيما تعنين نفسك بقراءته؟ أقول مهم جدا أن تقرئيه   واحرصي أن تقسميه جزأين، تقرئين الجزء الأول الآن أو بعد  يوم أو أسبوع أو شهر أو سنة وتبقي الجزء الباقي إلى أن تتزوجي وتخلفي درية صالحة أو فاسدة وتترهلي وتشيخي وتعجزي وتعلوا عينيك غشاوة من الشحوم تفقدهما جمالهما وبصرهما الحاد، آنذاك اخرجيه من صندوق أوراقك الخاصة وتناوليه بين يديك المجعدتين وركبي نظارتيك السميكتين ومري على كلماته، وإن فشل بصرك الكليل في الإمساك بحروف خطي المتداخل فنادي حفيدتك بعد عودتها من المدرسة إذا كانت طفلة صغيرة كما كنت قبل عشر سنوات أو من الجامعة إن كانت شابة بضة كما أنت الآن وتوسليها أن تقرأ ما في الخطاب وتوسليها ان تبقي ما فيه سرا بينكما ولا تجعلك نادرة تتندر بها بين قريناتها في المدرسة أو الجامعة، ولا تغضبي إذا ابتسمت ثم وضعت الكف على الفم لإخفاء سيلا من الضحك يتسرب بين أصابعها، ولا تضيقي بها درعا إذا ما مالت إلى الوراء حتى كاد ينكسر جدعها ثم انحنت إلى الأمام ودمعت عيناها ضاحكة لطرافة الحكاية، بل ابتسمي انت أيضا بكل ثقة عمرك الطول وقولي في نفسك اسخري ما شاءت لك السخرية واضحكي ما شاء لك الضحك فإن الزمان سيسخر منك تماما كما سخر مني وسيضحك منك تماما كما ضحك منى... ولا تنفقي ما أبقاه لك الزمان من عصب في غضب لن تجني من ورائه إلا وجع القلب والرأس، وكيف لك أن تغضي وأنت على ما أنت عليه من الضعف والوهن، وحاولي أن تجعلي كل ما تبقى  لك من عقل رث في فهم كلمات الخضاب، وافهميها بمنطق العجوز الضامر المهزولة هذا إذا اتفق أن للعجائز منطق، لماذا ...؟؟ لأني سأعينك على تحمل نفسك وإنك في أمس الحاجة إلى من يعينك على حمل نفسك خاصة بعد هذا العمر الطويل الثقيل الذي أبى أن يخلصك أو يخلص نفسه منك، والجزء الأول ينتهي هنا فاطوي الخطاب من فضلك واجعليه في صندوق أوراقك الخاصة ذلك الذي تحتفظي فيه بالصور التذكارية ورسائل العشاق وهداياهم الرمزية وأوراق الورود اليابسة ...     
صديقتي العجوز.....
الآن وقد غاب عنك الشباب وتزوجت وترهلت وعلت عينيك طبقة من الشحوم أفقدتهما جمالهما بصرهما الحاد جالسة تماما كما أتخيلك على كرسي قديم مثلك وتقف أمامك حفيدتك التي أخدت من جمال شبابك الشيء الكثير تمسك بين يديها الخطاب، وترفع صوتها بالقراءة حينا ليصل إلى سمعك الذي أدركته هو الآخر الشيخوخة وتخفض منه حينا آخر مخافة أن تلتقطه أذن أمها الجالسة أمام مسلسل في الصالة، وربما هي تبتسم الآن وتخفي ابتسامتها تماما كما وصفت لك فابتسمي أنت أيضا...
أيتها العجوز .... كم يحز في قلبي أن أخاطبك بصديقتي العجوز حين كان الأقرب إلى اللياقة والذوق أنا أخاطبك مجاملا صديقتي الشابة أو صديقتي الطفلة ولكني كما تعرفينني صلف العقل لا أستسيغ التدليس والمداهنات ولا أحب أن أرسم لوحات ليست من الحقيقة في شيء والحقيقة أنك عجوز شمطاء فاقبليها مني ولو كانت مرة، وكم يحز في نفسي أن أتخيلك عجوزا شمطاء تقوس ظهرها واعتمدت عكازة في مشيها وطغى بياض شعرها على سواده وجحظت عيناها واغرورقتا وتدلى شحم وجهها ولحمه وأكل الزمان عمرها وجمالها وجسمها ولم يترك لها من هذا كله إلا ما يتركه الضبع من فريسته، إني أتكلف في هذا الخيال السيء عناء كبيرا وآخذ عقلي بالقسوة لطرده وإبعاده، وكلما ألححت في طرده ألح على البزوغ في أخيلتي كأني به يصر على معاكستي، والحق كل الحق معه فيما يفعل فأنت كما قلت لك عجوز شمطاء وليس لي ان أتخيلك على صورة عجوز شمطاء فاقبليها مني كما قبلت الأولى والتمسي لي في ذلك الأعذار فليس أصعب من أن نتصور عجوز في صورة الشباب، وعلى ذكر الشباب أريد أن أعود بك إلى الوراء إلى تلك الأيام الجميلة الغابرة ... يا لها من أيام، لما أتذكر تلك الأيام وأستحضر تلك الشابة الغضة المليئة كالسنبلة وأنظر إلى هذا الشبح الضامر القابع أمامي لا أملك إلا أن أبتسم، ولا تحسبيني أبتسم شماتة بك أو تشفيا بما حل بك فهذا خليق بالأعداء وذوي النفوس السيئة، ولا أحسبك تسيئي بي الظن إلى هذه الدرجة، وإنما ابتسم ابتسامة مرة  من الزمان ومن لعبه القذرة، فتأملي معي كيف بسط لك في الحياة وسواها تحت قدميك بساطا جميلا، وجعل لك سلطانا على القلوب والنفوس، كنت تمرين كالصاعقة والنسمة الوهم والحقيقة، بعيدة قريبة ملموسة خفية، ثم سحب من تحت قدميك البساط الجميل ببطء شديد وكنت غافلة مغرقة في اللذة والسعادة وآخذة بحظك الوافر من حلو الحياة متناسية مرها أو جاهلة به تمام الجهل، واستفقت على وخز أشواك الوقع في قدميك... لكل هذا أبتسم من الدنيا جميعا ومن غدرها، ومن طريقتها في السخرية، إنها قاسية جدا يا صديقتي العجوز الشمطاء وقسوتها عليك وعلى أمثالك أشد من قسوتها على هؤلاء الذين قست عليهم من بداية طريق العمر، وأبدت لهم ما كانت تأجله لك إلى حين، لقد أذاقتهم مرارة البؤس والفقر والحرمان والأمراض والضعف وشتى ضروب المعناة التي قد تخطر على بالك والتي قد لا تخطر، فهؤلاء على الأقل تعودا على مصائبهم وتمنعوا ضدها مع الوقت وأصبحت جزء من حالتهم العادية وحياتهم اليومية، أما أنت فلا أراها إلا اختصصتك بوافر من فنون الانتقام ، وأي انتقام أكثر من زوال النعمة وحلول النقمة، فلو كان زوال النعمة وحده لكان الامر مستساغ ولو كان حلول النقمة وحده لكان الأمر مستساغ ولكنهما اجتمعا على رأسك في آن واحد وتعاونا على هدم سرح ذلك الشباب المجيد، والأدهى من هذا كله أنك ركنت إلى لعبتها وانطلت عليك وصدقتي كذبتها بالسذاجة التي تليق بشابة غرة في مثل عمرك، وخيل إليك أنك فعلا تلك الصورة الباهرة التي ترسمها المرآة على عينيك، وخيل إليك أنك فعلا تلك القوة القاهرة التي تتسلط على النفوس والعقول والقلوب فتجبرها على التيه والجنون والحب، وخيل إليك أنك فعلا مركز الدنيا وباقي الناس أجرام يسبحون في فلك من حولك، ولم تتخيلي يوما أن كل هذا سيزول كما تزول طبقة المسحوق بالنوم، لا هذا لم يخطر ببالك وإن خطر ببالك فإنما كان يبدوا بعيدا بعيدا جدا ومن نصيب الأخريات فقط، يا له من شعور مر ذلك الذي يخنق أنفاسك وأنت تسترجعين احلام الشباب الاول، يوم كنت تتوهمين نفسك مختلفة عن الآخرين ومغايرة لهم ومميزة عنهم، ولا شك أنك تكرهين نفسك وأنت تسترجعين شريط الذكريات ولا شك أنك تبتسمين من أحلامك الأولى، ولا شك أنك الآن تعرفين حق المعرفة أن ذلك الفارس المعتدل القد المهدب الجميل لم يكن إلا كابوس فوت عليك فرصة عيش الحياة الحقيقية، وأن ذلك العرس الباهر الذي تتحدث به قريناتك ما هو إلا دليل على حمقك وإغراقك في الحمق، وحمقك لم يتوقف عند مثل هذه الأحلام ويا ليته توقف عند هذه الأحلام، لو كان فعل لكان الأمر محتملا، بل كنت ترين نفسك أحق نساء الدنيا بالجمال والمال والسعادة والسلطان وكنت ترين نفسك الجمال الجميل الذي وجب على كل رجل حار القلب أن يتمناه ويهيم به، ولم تخجلي من نفسك وانت تحدثيها بهذا كله، فيا لك من مغرورة ويا لك من مغرقة في الغرور، فانطري الآن كيف انجلى غشاء الحلم الحريري عن الحقيقة البشع، وعلى ذكر الحقيقة فلا بد أن أجلوها لك كما كنت أراها وكما أراها الآن، الحقيقة أنك كنت إنسان عادي كجميع الناس، لا فرق  بينك وبينهم إلا بالغرور، هم آمنوا بحياتهم كما هي وأنت آمنت بحياة لونها غرورك، الناس عاشوا حياتهم وأنت عشت حياة لم تكن إلا في خيالك ....
ولآن ماذا أقول؟ وكيف أعالج الموقف ؟ ربما أطلت في سرد أوجه الحقيقة، وعددتها جوانبها وقلبتها ظهرا على بطن، وقد وعدتك أن أساعدك على تحمل نفسك، وعلى تحمل ثقل الزمان وأعبائه، ولكني احترت كيف أزيح عن كاهلك هذا الهم، لا شك أن الزمان أذاق من الإحباط بحيث من الصعب أن أقنعك بالعودة إلى الحياة، وربما فكرت في الانتحار أو انتحرت عدة مرات وأنت على قيد الحياة، فكيف بعد هذا أحاول أن أرجع لنفسك شيء من الراحة، ولكن النهوض بواجب الصداقة يحتم عليا المحاولة وإن كنت في قرارة نفسي أومن بأن اليأس خير من المحاولة إذا كنا نعلم أنها فاشلة، وعليه فإني أدعوك إلى أن تتضرعي لله وتخلصي له الدعاء بأن يصيب ذاكرتك بذلك المرض الذي نسمع عنه في الصحف والقنوات ويسمونه الزهايمر حتى يغسل صورة تلك الفتاة الغير عادية التي كنت ترينها في نفسك فأنت فتاة عادية جدا ......
أيتها العجوز بقي أن ألفت انتباهك إلى تفصيل بسيط وهو أنني أشرت في بداية الخطاب انني لن أتحدث عنك ولن أمسك من قريب أو بعيد ولكنك ترينني أغرقت في الحديث عنك وعن حياتك بغير رقيب ولا حسيب، وقد يخيل إليك أنني فعلتها غفلة أو عن قصد أقول يا عجوزي المسكينة إن كلامي لا يمس شخصك المحترم إلا من حيث أنني اتخذته مثالا لدراسة ظاهرة تشاركك فيها الكثيرات، وما قلته عنك يصدق عن غيرك ممن سول لهن الغرور أشياء ليست من الحقيقة في شيء يذكر، إذا فكلامي عنك لا يمسك من حيث أنت تلك المرأة العجوز التي عرفتها يوم من الزمان ولكن من حيث أنك مثال لظاهرة...
وفي نهاية هذا الخطاب أجد نفسي مجبرا أن أتمنى لك حظا سعيدا في حياتك العادية وأرجوا أن لا أكون قد أثقلت عليك وتقبلي تحياتي الصادقة وتأكدي من نيتي الصادقة في المساعدة .....صديقك المُخْلِص أفندي

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire