قال ونحن على طريق العودة:
ـ كانت معروفة من البداية.. !!
وألقي في فمه عدة حبات من الكاوكاو المملح
اللذيذ الذي اشتريناه من عند السويسي
المتجول بقفته بين المقاهي وهرسها في فمه
بنهم، ثم استرسل وهو يضحك بفم مليء:
ـ ها نحن نعرف الخاتمة ونبدأ، أالله
يرحمك يا عبد الحليم حافظ ،لو كنت حيا ترزق لفضلت الموت قبل أن ترى الناس تعرف
الخاتمة وتبدأ وأنت طول عمرك تغني
"لو كنت أعرف خاتمتي ما كنت بدأت": ...!!
وراح يقلد عبد الحليم حافظ في
صوت أنكر من صوت الحمار... و ضحكنا معا وسرنا واجمين لوقت قصير ولكن يبدو أن صمتي
أقلق فضوله فلربما اعتقد أني تأثرت للمصاب الجلل الذي ألم بمنتخبنا، والحقيقة أني
كنت أفكر في شيء آخر لا أريد أن أذكره فأتهم بالتقصير في الغيرة لقضيا الوطن
والشعب، فتساءل في نوع من الاستنكار:
ـ لا يبدو أنك تأثرت...كأنك لا
تهتم؟؟
فقلت بدون تكلف:
ـ إنها الروح الرياضية ..!
فقال وهو يرمقني بعين ضيقة ماكرة:
ـ الروح الرياضية !! ولكن ربما قالوا
عنا في الخارج ضعفاء أو شيء من هذا القبيل!!
فقلت بدهشة:
ـ وما العيب في ذلك.. الضعف
جانب من جونب الانسانية، ولولاه لما وجدت المشاعر الانسانية الجميلة التي تنتج
الأعمال العظيمة ...!!
فقال وهو يهز رأسه العريضة:
ـ هكذا إذا ...الأعمال
الإنسانية العظيمة !!
فقلت :
ـ نعم .. فالضعف بعد من أبعاد
القوة العديدة، يجب أن لا ننسى ذلك.
فقال :
ـ ونحن المغاربة أبطال العالم في
هذا البعد ... !!
فقلت موضحا:
ـ نحن المغاربة شعب أخصنا الله
بفضائل ونعم لم يخص بها شعب غيرنا لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه، فنحن شعب قوي،
وليس القوة هي كرة القدم، ونحن شعب سعيد ولكن ليس السعادة هي انتصار في مبراة،
فهذه قوة مادية مهما غلى سعرها بين الناس تبقى بخسة ، وهذه أيضا سعادة مادية مهما غلت
لن ترتفع عن أديم الأرض، ولكن قوتنا روحية
سامية خالصة، تنبع من داخل نفوسنا كالمصباح تنير لنا الطريق.
فقال:
ـ صدقت ! يجب أن نحمد الله !!
فواصلت :
ـ فنحن ولا فخر قد أوتينا قوة روحانية تهزم
الهزائم وتجعلها هادئة لا نار لها ولا حرقة،
بل وتحولها إلا مادة للتهكم وسببا للضحكات المتعالية الساخرة، نتقبلها بصدر
رحب كبير، ونواصل حياتنا كما اعتدناها سعداء نضخك من مآسينا طول النهار حتى نغرق
في أصواتنا المجلجلة ونتحدى نكباتنا بوجوه
باسمة لا تعرف التذمر ولا السخط...
فقال مستنكرا:
ـ ولما التذمر أو السخط .. أفي
الدنيا ما يستحق ؟
فقلت:
ـ لا بالطبع... فكل شيء سائر
إلا الزوال لا محالة، في النهاية سيذهب كل شيء، الهزيمة والانتصار معا سيصبحان خبر
لكان على حد السواء، والحياة سجال، المنتصر ينهزم والمنهزم ينتصر ودولاب التاريخ
تدور بلا توقف ولا ملل، فلما التعب؟ وفيما
الجري وراء أشياء زائفة لا ثبات لها ؟ إني لا أرى مبررا لكل هذا التعب ...الناس تجري وتلغط
وراء الدنيا كأنها خالدة فيها !!
فقال:
ـ فلنترك الناس يتخبطون فيما هم فيه يتخبطون
ولنحيا سعداء آمنين..!!
فقلت:
ـ تلكم هي الحكمة... فليفز من
شاء، ليكن ساحل العاج، ليكن الرأس الأخضر، أو جنوب إفريقيا ما شأننا نحن بهذه التهافت
السخيف، ليستبقوا كما شاءوا وليتغنوا بأناشيد البطولة فذلك مجرد تشجيعا للنفس وحملها
على مواصلة الحياة كمن يحدث نفسه جهرا في
الظلام طردا للخوف...
فقال متسائلا :
ـ ولكن لم نحن دائما ...؟؟
فقلت:
ـ لتكتمل المسرحية، وليس من الضروري
أن أذكرك أن الضعف دور مهم في مسرحية الحياة، وليس كل الناس يتقن هذا الدور!!
فقال بلهجة سريعة متوترة:
ـ نعم نعم أفهم المسرحية ولكن
كيف نلنا شرف هذا الدور من دون الناس، ما الذي صنعناه حتى نستحق ها الدور البطولي
...؟؟؟
فقلت بهدوء:
ـ سؤال مهم يحير الكثيرين من
أمثالك، ولكن عليك أن تعلم أنه تكليف قبل أن يكون تشريف ... ولم يأتينا هذا
التكليف أو التشريف ـ سميه ما شئت ـ جزافا هكذا بل نلناه عن جدارة ... فنحن
المغاربة كما قلت أقوياء، قوتنا تنبع من فطرتنا المسالمة الجميلة ، يعني من ضعفنا،
إن الضعف هو أيضا مظهر قوة في بعض الأحيان ، فليس كل الناس يستطيعون أن يكونوا
ضعفاء ويتحملوا ضعفهم ويواصلوا حياتهم
بسعادة، إن تحمل الضعف لقوة لا تعدلها قوة ونضج نفسي وفن وروحاني راقي لم تبلغه كل شعوب الأرض بعد، ولكن
الفكر الشعبي والعقلية العامية التي تسود باقي الشعوب ترى فيه نقيصة، ولكن رسالتنا
نحن الذين فهمناه أن نجعله فضيلة من فضائل الإنسانية..!!
فقال:
ـ قد يجادلك ذوي العقلية
التقليدية القديمة من أصحاب أساطير الانتصارات والطموحات الكبيرة والأمجاد
التاريخية فيدعي أن هذا كلاما فارغا لا أساس له يلبس الحق بالباطل ويعمد إلى
التدوير الكلامي الفارغ الذي يجعل كل شيء تافه لا يستحق التعب .. كيف ترد عليهم ؟؟
فقلت بنبرة حاسمة:
ـ أرد عليهم بالسكوت.
وخرجت من فمه سريعة كالصرخة قبل
أن يفكر:
ـ السكوت ...!
فقلت بلهجتي الهادئة:
ـ إذا نطق السفيه فخير من
إجابته السكوت .
وعاد إلى مزاجه أو عاد إليه
مزاجه الرائق ورمقني بعينه الضيقة المداورة وعاد يقول في روية ومكر:
ـ ولكن يجب أن نبسط للناس هذه الأطروحة حتى
نتمكن من تمرير الرسالة الانسانية المنوطة بشعبنا العظيم، فليس كل الناس أوتوا عقلا
نيرا كعقلك يرى بواطن الأمور...
فقلت أشرح وأفصل:
ـ هذه الأطروحة تقوم على فكرة
سامية نبيلة هي أن قسمة الحياة عادلة، يجب أن نومن أن الله لما منحنا الحياة قسمها
بيننا بشكل عادل، ومع تفاوت المظاهر والتجليات
يبقى الأصل ثابتا وهو العدالة، ويكفي القليل من التفكر لفهم الأمور على
وجوهها ... فإذا كان الله قد جعل للناس من
كل بقاع الأرض ورقعها أقدام قوية مرنة رشيقة خفيفة تراقص الكرة في أناقة جميلة ثم
تصوبها في دقة، فإنه جعل لنا قلوب قوية صلبة صابرة مكابرة قادرة على تحمل الزمان
والصبر على غدره وخدلانه بحكمة الشيوخ
وصبر الحمير، وجعل لنا مرارات سميكة لا تنفجر ولا تفيض أبدا مهما كان ومهما لم يكن،
مصممة بشكل دقيق لتواصل عملها الطبيعي في معزل عن الظروف الخارجية، وجعل لنا أيضا
قلوب كبرة كريمة تنسى بسرعة وتأمل بسرعة تعمل هي أخرى في ظروف السكتة القلبية،
وخيال خصب ثري يصور لنا أنفسنا كما نشتهي لا كما نحن، فاسأل أي فرد منا ستجده
فخورا بنفسه وبوطنه وأمجاده ووو.... ولا شك تسمع عن إحصائيات الانتحار والسكتات
القلبية في الشعوب الأخرى بينما نحن نحيا حياتنا في سلام لم نعرف السكتة القلبية
إلى في الجرائد وقنوات الأخبار مع أن المنطق يقول يجب أن يموت نصف بالسكتة القلبية.
فقال بنبرة العرفان:
ـ الحمد لله على نعمه التي لا
تحيط بها عدد ...!!
وتصافحنا إيذانا بالفراق وأطلنا الشد على الأيدي كأننا نخشى تلك اللحظة
المقيتة التي يسير فيها الانسان وحيدا مع نفسه فيغرق في أفكاره وحيدا من دون معين
ولا مسلي وما أحوجنا إلى التسلية والعون بل ما أحوجنا إلى التعزية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire