
هذا يا رفاقي طالب
يجلس معنا على طاولة الدرس ويأكل معنها في المطعم ويرتاد معنا أروقة المعهد، يعيش في
سخب المعهد كما نعيش، تراه إذا أقبل الصباح يصافح الناس ويبادلهم التحايا
والسلام والابتسام فتظنه مرتاحا البال خاوي الخيال، وتراه إذا اعتدل النهار غارقا
فيما يغرق فيه الطالب من صغار أمور الحياة الطلابية وكبارها فتظنه كباقي الطلبة لا هم له إلا ما يهم
الطلبة جميعا، وتراه إذا أقبل اليل يسامر الأصحاب ويشاربهم الشاي ويحاورهم في
قضايا الأدب والفن والاجتماع الاقتصادا و لسياسة فتجزم أنه أخلص عقله لهذه الأمور
وشغله بها عما سواها، بكل اقتضاب أقول إذا تأملت يومه تجده عاديا كأيام الطلبة،
سعيدا حينا شقيا حينا، مرحا حينا ضيق الصدر حينا، باسما حينا عابسا حينا، ومهما
اختلفت الأحوال وتلاحقت الأحيان يبقى كل شيئ فيها طبيعي يمكن أن يحدث لأي منا دون
أن يلفت النظر أو يستلزم انتباه...
هذا الليلة وقد انقضى
من الليل نصفه، قلت لنفسي لما لا أزوره فآخد في الحديث وأعطي معه وأعرف منه
رأيه فيما صار ويصير في المعهد هذه الأيام، وهكذا كان، قصدت غرفته وطرقت الباب
طرقا خفيفا ودفعته دفعا خفيفا ودخلت، ويا لتراجيدية المشهد ، يا
ليتني لم أزره حينها ولا رأيت ما رأيت، يا ليت عيني لم تقع على تلك الدمعة الغالية الحارة تأخد طريقها على خده،
فما كان مني إلى أن أشحت بوجهي عن ناحيته وأخرجت منديلي ومددت له يدي متحاشيا
النظر إلى وجهه وقلت أنظر إلى الناحية الأخرى:
ـ خد ... كفكف دموعك، فدمع الرجال حرام أن يهضر رخيصا هكذا !!
أخد المنديل،
وانتظرت لحظة، فقال:
ـ يمكنك الآن أن
تنظر إلى ناحيتي ...
ونظرت إلى ناحيته حائرا
متسائلا:
ـ ما الذي حل بك فأبكاك
يا رجل ...؟؟
ـ لا تسأل يا فؤاد
لا تسأل ما دمت لا تستطيع أن تنصفني وتجعل العدالة تجري مجراها مع من اعتدى علي وظلمني ؟
ـ أقسم لأعلقن
محاكمة طلابية غدا وأنتزع حقك من عيونه... فقط تماسك وقم لتقم بواجب الضيافة وأعد لنا كأش شاي من ذوقك نروق ميزاجنا ثم احكي وغدا نتفرج على ذا الظالم
الذي أبكاك في جوف الليل!!
تماسك رفيقي وأعد إبريق
الشاي، ورتب كؤوسا صغيرة حوله على الصينية الفضية الصغيرة بتأنق وذوق، وصب وقلب
وشقلب، وقدم لي كأسا مجللا بعمامته البيضاء، فرفعته إلى مستوى عيني لعلي أفهمه، ثم
رشفت رشفة طولية خفيفة وتمطقت من هول اللحظة، ونظرت إليه بنصف عين وصرخت:
ـ الله الله ... الله
على هذه النعمة !!
ورشفت رشفة أخرى
وأغمضت عيني لبرهة أحاور ذاك المذاق، ثم تحولت إليه:
ـ الآن يمكن أن
أسمعك وأفهمك ... والله والله لأرين هذا الظالم نجوم الظهر!!
نظر إلي في تسليم
واسبل عينيه وأرخى حبال جبينه كأنما يقول أمري لله معك ومع إصرارك وأطلق نفسه على
سجيتها:
ـ إذا كنت مصرا
فاسمع ...
ـ نعم ....
ـ إن ذلك الطالب
الذي تعرف يا رفيقي لا يمت إلي بصلة، إنما هي صورة أضعها أمام الناس أخفي وراءها شخصا
معذبا مجروحا يئن داخلي، أنا ومنذ بداية السنة أتعرض للطرب والجرح بسلاح خطير، أضرب
في صمت ثم أجبر على الصمت...
ـ لقد أخفتني يا رجل
... من يضربك، وبما ومتى وأين وكيف ؟؟
ـ تضربني طالبة هنا معنا في المعهد تضطرب معنا
فيما نضطرب فيه من دروس وامتحانات و....
ـ طالبة .....!!!
ـ نعم طالبة ...
ـ كيف يا رفيقي
كييييف ؟؟ هل أنا في حلم أم أنك تريد أن تفقدني عقلي ؟؟؟
ـ لا أنت في حلم ولا
أنا أريد أن أفقدك عقلك ...
ـ اشراح .. قل..احكي
.. فضفض ..ثرثر يا رفيقي ... لا لا أريد تلميحا ولا إشارات، أدخل الموضوع من كل
أبوابه وأرحني، لقد عيل صبري !!
ـ تضربني بعينيها الشهلاوتين
ضربا مبرحا ...
ـ الله ..!!
ـ تجرحني وتدميني
دون أن تترك أثرا ...
ـ ولكن القانون لا
يعاقب على الضرب بالعينين !!
ـ ولكنه سلاح خطير،
يضرب عن بعد وفي صمت ولا يبقي أثر خارجيا، ثم إن كان هذا القانون يعاقب على الضرب
بالسلاح الأبيض الذي يصيب الجسد، فالعيون تصيب القلبب، والقلب أقدس من الجسد، وأرفع
منه عند الله منزلة..!!
ـ في هذه معك حق ...
ضرب القلوب أكثر إجراما من ضرب الأجساد، ولكن كيف سنثبت هذا أمام الساحة الطلابية...!!
ـ افتحوا صدري
ستجدونني أعيش من دون قلب... وستجدون بصمات عينيها الخجولتين وستجدون الجروح ...!!
ـ وأين قلبك ....؟؟
ـ أخدته تلك المرأة
القاسية المعذبة السارقة ...!!
ـ هكذا إذا ...
المسألة فيها ضرب وجرح وسطو على قلب طالب باستعمال سلاح العيون الشهلاوية الخجولة...
ـ السمسألة فيها
أكثر من هذا وأكثر مما قد تتصور ... فيها ضرب وجرح وسطو وشنق على حبال الحب، وفيها
حرمان من النوم، وسلب لراحة البال، وإغراق الخيال، وفيها وفيها الكثير ....
ـ لكن الأعراف لا تعاقب على الجرائم العاطفية !!
ـ إن لم تعاقب عليها الأعراف ولا القانون، فمن
سيعاقب عليها، ومن سيحميني أنا ؟؟
وأحجمت برهة أفكر ثم
رفعت يدي قائلا:
ـ صحيح أنه لا
الأعراف ولا القوانين إلى حد الآن تستطيع البث في قضايا كهده، ولكن تاريخهما معا
تاريخ تطور، وقد يكون هذاهو المنعطف التاريخي، من هنا من داخل الساحة الطلابية
العتيدة سنأسس قانون الجرائم العاطفية، وليشهد التاريخ غدا ميلاد علمين
جديدين: الجرائم العاطفية، والقانون العاطفي ... ولكن ما نوع العقوبات ... يعني في
حالتك مثلا ماذا تقترح كعقوبة لهذه المرأة القاسية السارقة المجرمة .... أن نزوجك
إياها مثلا؟؟
ـ أتزوجها ... لا لا
..لاااا أريد... ستقتلني رميا بعينيها
حتما ..!! أقترح أن تطردوها
من المعهد لشهرين ابتداء من يوم غد، فأنهي بحتي وأناقشه وأودع المعهد وأذهب لحال
سبيلي ... ثم بعد ذلك أعيدوها إن شئتم وإن لم تشاؤوا فأعيدوها حتى تكمل دراستها.
هذا الذي صار بيني
وبين رفيقي ورفيقكم في الدرب الطلابي نقلته إليك بكل أمانة، وأملنا كبير أن تهبوا
لحماية هذا الطالب وأن تلبوا نداء العدالة.
المحاكة الطلابية
ستجرى غدا بإدن الله بساحة المعهد ابتداء من الساعة الثانية بعد الزوال، المرجو من
المتهمة الحضور وإلا ستحاكم غيابيا وبه وجب الاعلام والسلام.
رائع...جرائم جديدة تضاف القانون الجنائي...
RépondreSupprimerإما أن تكون العدالة شاملة أو لا تكون هههه ... مرورك أروع ياسين
Supprimer"ولا يجرمنكم شنئان قوم على الا تعدلوا...اعدلوا هو اقرب للتقوى"
RépondreSupprimerأنا شخصيا لا دخل لي في الموضوع وكما ترين فقد خرج من يدي وأصبح في يد الساحة... وهذه الحركة مني هي في حقيقتها غيرة على العدل والعدالة ورغبة في ألقرب منهما؟
Supprimerللقراءة متعة و لكتاباتك روعة و لخيالك بالواقع وقعه.. فما أجمل ما تسطر و ما أروع ما تبتكر
RépondreSupprimerخاطرة لا يكتبها إلا قلم متمكن و لا يحبكها إلا فكر متزعم.. سافرنا من خلال هذه الحروف إلى أمنيات قاتلة حالمة أفاضت فينا رغبة صادقة بتأسيس قانون يدين الجرائم العاطفية
فلتقم المحاكمة إذن.. ولولا البعد الجغرافي لكنت أول الحاضرين
مر وقت المحاكمة ولم تقام فعلت خيرا لما وفرت عناء السفر ... سيرثي رفيقي العدالة بعدما رثي قلبه...جزيل الشكر يا هاجر
RépondreSupprimer