mardi 21 mai 2013

طفولة

كنت قد  ولدت قبل خمس سنوات على هضاب مقدمة جبال الريف بين أب فلاح يعيش على الأرض وتعيش فيه الأرض وأم لا تعرف من الدنيا إلا كيف تغدق الحب على أسرتها وتتفانى في إسعادها، في هذا العمر الصغير تلبسني أمي جلبابا أبيض وتحكم على رأسي عمامة مطرزة بألوانا زاهية وتضع في رجلي بلغة جلدية بيضاء صمم عليها سيف من خيوط دقيقة لامعة، ثم توقفني أمامها وتتأملني لحظة ثم تضمني إليها في جنون وتقبلني ثم تضع بيضة في يدي وتقدمني لأبي، فأتمسكت بيده اليمنى والبيضة في يدي اليمنى وسرت إلى جانبه أتبختر في جلبابي لا أعرف نفسي من الفرح..في نهاية  الطريق الخارج من البيت وجدت نفسي في مفترق الطرق فانحرف بي أبي إلى ناحية لم يخطر على بال أني سأنحرف إليها يوما، فسألته:
ـ إلى أين تأخدني ... ؟؟
ـ نحن ذاهبان إلى المسجد..!
ـ ولما ..؟؟
ـ لتتعلم الكتابة والقراءة وتحفظ القرآن.
ـ وأنت ؟؟
ـ أنا كبرت على ذلك ..!!
ـ أنا أيضا كبرت ..!!
ـ لا أنت لا زلت صغيرا ..
ـ أنت تقولي لي " كبرت وصرت رجلا "
ـ نعم ..صرت رجلا ولكنك لم تصر فقيها بعد.
ـ وهل الفقيه أكبر منك ؟
ـ نعم ...
كانت هذه أول حقيقة تواجه عقلي الصغير وتتعبه..ودخلنا المسجد وهو دار من الطوب يحيط بفضائها الواسع سور قصير، قامت في وسطه  شجرة تين عظيمة وارفة الظلال إستوى إلى جدعها شيخ في مراحل الهرم الأولى ولكنه حازما متوازن الحركة، وعلى يمينه عصاه الطويلة الجرداء تنام ببراءة ، وحول الشيخ تحولقت جماعة من الصبيان أصغرهم أصغر مني قليلا وأكبر مني كثيرا، ألقى أبي السلام ثم صافح الفقيه بإجلال فشعت عيناه بالترحاب والاهتمام وقدمني إليه:
ـ جئتك بفقيه صغير تضمه إلى فقهائك ...
فتلقفني الفقيه بين يديه وقبلني على جبيني ثم أجلسني إلى جانبه ووضع يده على كتفي وجعل يتمتم أدعية اجتهدت لفهمها ولكن لسانه كان يتجاوب مع شفتيه في حركة سريعة لا تتيح للسامع فرصة لتفكيك الحروف وفصلها عن بعضها، ثم انخرط أبي في حديثه مع الشيخ وانخرطت أنا مع الصبيان في حوار عميق بالعيون، وانتبه أبي إلى البيضة في يدي فقال مستنكرا:
ـ ألن تعطي البيضة للفقيه ... أم تريد أن تكبر وتصبح فقيها من دون أجر؟؟
فمددت يدي بالبيضة للشيخ فأمسك يدي وقبلها ثم وضع البيضة في حجره، وقال مبتسما:
ـ اللحمد لله الذي أغنانا من فضله!!
وقام أبي يريد الانصراف، فقمت معه متعجلا، فتعجب:
ـ إلى أين ؟
ـ معك ...!!
ـ لا أنت تبقى هنا تتعلم وتحفظ القرآن مع أصحابك، ونلتقي عند المساء !!
وأرسلت إليه نظرة باهتة متوسلة، فبدى صارما مصمما كأنما نسى تلك اللحظات الحلوة التي قضيناها معا في المناغشة والمغامرات الودية الجميلة، وحمت حول المكان في نظرة تشي بمرارة خيبة الأمل، وتوقفت عند الفقيه وكان ينظر إلي مبتسما وقورا رحيما كأنه يلمس ذوق الخذلان في قرارة نفسي، فتدخل لينهي المشهد:
ـ خده معك الآن وغدا يأتي في الصباح مع الأولاد !!
فشكرته في صمت، وأحببته، وخرجت  لا ألوي على شيء، أتجرع مرارة الخدلان وأسأل نفسي كيف يتنكر لي أبي بعد اللذي كان بيننا وبهذه البساطة، وكان ذلك هو المفصل الذي علمني أنني كبرت وآن لي أن أرى وجه الحياة الحقيقي، وأن أمشي  وحدي مستقلا من دون يد أتمسك بها...

2 commentaires:

  1. جميلة هي الطفولة تحيا بداخلنا فلا تشيخ...لكنها كلما عدا عليها الزمان تزداد خجلا كانها العروس في
    خدرها...فتلوذ بذلك الركن اليتيم...ولا تزورنا الا غبا حين يغلبها الحنين...او حين ينكبنا الندم

    RépondreSupprimer
  2. كالعروس في خدرها إلا أن العروس يزول خجلها رويدا رويدا والطفولة يربو خجلها رويدا رويدا

    RépondreSupprimer