الأحد، الساعة الحادية عشر والنصف، يرن
الهاتف فيسحب الغطاء ويخبئ وجهه في المخدة
ويتمنى من أعماق قلبه أن ييأس المتصل بسرعة ويقفل، ولكن الرنين يطول ويضرب
في جدران دماغه كصاعقة رعدية فيسبب إزعاجا رهيب، ولكنه لم ييأس من رحمة الله وابتهل
لله مخلصا في صمت أن يرد عنه هذا البلاء ، واستجاب الله وكف الرنين فأرسل زفيرا
طويلا واستسلم للفراش، وخطر له أن يغلق الهاتف قبل أن يأتي اتصال آخر ليذهب بما
تبقي له من أمل لا قدر الله ، فأخرج يده يتحسس المصطبة الصغيرة على جانب الفراش
حيث يضع المفاتيح والهاتف والكتاب قبل النوم، هذه هي المفاتيح فوق الكتاب فوق
المصطبة ولكن الهاتف غير موجود، وتذكر أن الصوت كان يأتي من الطاولة بعيداهناك،
عليه أن يغادر الفراش إذا كان يريد أن يحظى بساعة أخرى من النوم الهنيء من دون شك
ولا وسوسة، ولكن كيف له أن يتخلص من جاذبية هذا الدفأ ويقف على قدميه ويتحرك هذه
المسافة كلها إلى الطاولة فيأخد الهاتف ويغلقه ثم يعود، لا شك أنه سيقضي على كل
أمل إذا قام بكل هذا الشقاء، وقر عزمه أن يضع أمره بين يدي القدر وينام وليكن ما
شاء الله أن يكون، واسترخى فأخد الكرى ينسج خيوطه الحريرية حول عينه وصار عقله
يغيب قليلا قليلا... ولكن هذه هي الحياة، يجب أن يقبلها كما هي بحلوها ومرها! رن
الهاتف مرة أخرى للأسف وخطر له أن يتجاهله كما فعل من قبل ولكنه يعرف أنه لن يتحمل أكثر
مما تحمل، وقام بطيئ الخطو يستنزل اللعنات على السهر والنوم وعلى المهاتف
والهواتف المحمولة والثابتة وعلى العلم والتكنولوجيا والدنيا والحياة جميعا، ولكن
الهاتف لم يكن على الطاولة بل كان في جيب السروال المعلق هناك على المشجب الذي أدخل
يده به أخر مرة وفتح الخط فجاءه صوت معروف:
ـ اليوم الطاجين !!
وانقطع الخط بسرعة قبل أن يتيح له فرصة
التفكير والرد، فتهلل وجهه بابتسامة كسولة وقال في رضى :عسى أن تكرهوا شيئا وهو
خير لكم، وجلس على حافة الفراش وجعل يدير رأس يمينا وشمالا ثم يمسك يدا بيد ويمدد
عضلات جسمه تمديدا عنيفا لذيذا، وعاد إلى
الفراش وسحب الغضاء من جديد وقال يخاطب نفسه: الطاجين آآه والتعب لا،
وعزم أن يجد لنفسه مخرجا يجنبه تعب تلك الأشعال التي يستتبعها الطاجين، من تسوق
وإعداد الخضر واللحم و غسل الأواني وما إلى ذلك من الأعمال المرهقة المملة، كل ذلك
القرف لا يحبه وفوق ذلك لا يحب أن يجلس فارغا الرأس والبطن ينتظر ساعة أو ساعة
وبعض ساعة يستمع لضجيج الطاجين ويشم روائحه التي تأججه في البطن غليانا حارقا ليس
أقل من غليان بطن الطاجين فوق النار، لا كل هذا ثقيل على نفسه، كل ما يستطيع هو أن
يحضر في الوقت المناسب فيصيب ما كتب له
الله أن يصيب وينقد الجمع ما يجب أن ينقده من النفقات ثم ينسحب مشكورا أو يبقى برهة
من الوقت تقصر أو تطول يحادث جماعة
الأصدقاء ويسمع منهم..
وأجل التفكير في موضوع العذر إلى الوقت
المناسب وضبط المنبه على ساعة صدقه عليها إحساس عميق وعملية حسابية شبه مطبوطة
وأغلق الهاتف واسترخى في سلام...
وبعد ساعتين استفاق من نومه السعيد وأصلح من
شأنه وخرج إلى المقصه فتناول فطورا خفيفا فتح به شهيته للوليمة ثم بعدها خرج في
خطا وئيدة وميزاج هادئ إلى باب المعهد ووقف على حافة الطريق وأجال بصره هنا وهناك
ثم انقلب على عقبيه راجعا يخيم على كيانه شعور مرتاح عجيب كأنما هو السعادة المتبقية بعد سهر طويل حتى شروق الشمس ونوم طول حتى استوائها في كبد السماء، وسار مشوراه
السعيد لا يفكر في شيئ حتى وجد نفسه أمام الباب فطرقه ودفعه دفعا خفيفا ودخل فوجد
المشهد كاما كان مرتبا في دهنه من قبل جماعة الأصحاب يتحولقون حول موضوع في تفلسفتهم
المعتاد الساخر فتتطاير التعاليق اللادعة وتتعالى الضحكات المجلجلة وكؤوس الشاي
تدور دوراتها بلا انقطاع وشخير الرشفات الطويلة والتمطقات وإيقاع الطاجين يأتي من الشرفة
متوازنا رسينا ورائحة تخبر عن نضج مرتقب.. استقبله الأصحاب بنظرة مستنكرة يعي
معناها جيدا فقال:
ـ يبدو أني دخلت المكان الخطأ ...!!
فأجاب أكثر من صوت في نفس الوقت:
ـ نعم ...!!
فتقدم وأخد مكانا مريحا وقال:
ـ السلام عليكم.
فردت الأصوات متداخلة:
ـ وعليكم السلام ورحمة الله... أما بعد ؟؟
فقال وقد اتخدت نبرته نوعا من الجد ألزم
الأصحاب الانصات:
ـ أما بعد فاسمعوا أعذارنا ...
فجاءت الأصوات وقد قل عددها:
ـ هات ...
فقال وقد اعتدل في جلسته بلهجة الوائق مما
يقول:
ـ كنت نائما
ونظر إليهم في وقاره ووثوقه بنفسه ونظروا إليه يستزيدون وطالت لحظة
الصمت المترقب فقال أحدهم ساخرا:
لقد كان نائما، فماذا تريدون أكثر؟ ألم يرفع الله
القلم عن النائم حتى يصحو ...؟؟
ـ فصدقوا على قوله بهز الرؤوس ...
وتطايرت الألفاظ القارسة والتعاليق الغامزة المستفزة من من أفواه
الصاحب فكان يرد عليها بضحكات مجلجة صادقة نابعة من قلب يعرف بدكائه أن قلوب هاؤلاء
الأصحاب لا تحمل له إلا ود أبيض صافي وأن هذا القرس وهذا اللغز ليس إلا طريقتهم في الترحيب الحار المفعم بنفس الرفقة
الطلابية الحرة العميقة الجميلة في كل أبعادها..
وانسجم جمع الأصحاب وحلق على عادته إلى سماء المثاليات في محاورة
فكرية جدية حينا ساخرة حينا تاركا وراء ظهره قيود الحياة العملية، كأنما انعزلت
تللك الغرفة الصغيرة ميكانيكيا وروحيا عن باقي العالم وانطلقت سابحة في
دنيا غير هذه الدنيا وعالم غير هذه العالم وزمن غير هذا الزمن، هي ساعة بأبعاد
عميقة يتماهى خلالها الأصحاب ويصبحون هم هم، يصيرون هم الحقيقيون الذين كانوا
سيكونون لو كان بإمكانهم أن يختاروا ما يكونون ولكن متى كان للناس أن يختاروا حياتهم
ومتى كان لهم أن يختاروا أنفسهم وشخصياتهم ويعيشوا بها في الواقع
إذا لا بد أن تستفز رائحة الطاجين أنوفهم وتثير من حول حواسهم حركة ساخبة تجتدبهم من سماء العقل والروح إلى أرض البطن والجسد، ولا
بد أن يتنبه أحدهم إلى أن الوليمة قد آن لها أخير أن تصل مثواها الأخير، ولا بد أن
يتدخل أحدهم يطلب الصبر لعشرة دقائق أخرى ليبرد الطاجين ويصبح قابل للمضغ والبلع من
دون أدى، ولا بد أن تمر دقيقة أو دقيقتين أو خمسة دقائق على أكثر تقدير فيتعجل
أحدهم الأمر ويطالب التعجيل بالبر إذا أن خير البر عاجله فيوافقه البعض صائحين
أنهم لن ينتظروا إلى آخر الدهر ليصبوا غذاءهم لهذا اليوم .. وكذلك كان وعمت حالة
تأهب قصوي واستنفار لكل الطاقات كأنهم مقبلون على حرب والحقيقة أنهم كانوا مقبلون
على حرب، واستداروا حول الطاجين الفخاري وسموا الله وبدأت معركة طاحنة لا
أحد يضن البقاء فيها، وبدأ التزاحم بالمناكب والتدافع بالأيدي والوالتراشق باللحظ والتغامز باللحظ وغاصت الأيدي بما فيها
من خبز في بطن الطاجين وأصابت من لحمه وخضره وألقت به إلى أضراس طحونة فتلقفته في
دورات سريعة متعجلة تم ألقت به إلى حلوق قادته هي الأخرى مسرعة متعجلة إلى بطون
هضومة.. وتوالت الهجمات متتالية متسارعة وتآكل الطبق وتعرت جونابه كأنما هب عليه
الجراد وتراجع الأصحاب كل يتندر بصاحبه ويعرض بشجاعته وبلائه الحسن في ساحة العمل
الجاد ....
واستراح كل منهم إلى مكانه الأول ماسكا بطنه
بيديه لا يكاد يتنفس بلا بعد تعب ومشقة فقال أحدهم:
ـ تغدّ وتمدّ ولو دقّتين ....
فقال صاحبنا:
ـ أما أنا فقد سهرت البارحة ونمت نصف اليوم،
يجب أن أدهب الآن، لدي عمل أقولم به !!
فقال أحدهم:
ـ دعوه يدهب فلابد أن له عمل يقوم به كالعادة
بعدما ينتهي الدي جاء من أجله ....!!
فيضحك ضحكته الصريحة ويصافحهم الواحد تلو
الآخر وهو يقول:
ـ باسم الحب والسعادة والصحبة والرفقة باسم الهموم والعذاب والمعانات باسم الشجارات
والسراعات باسم الحوار والجدال باسم كل شيء جميل وباسم كل شيء غير جميل أصبح بكم
جميلا وعلى الخصوص باسم الطاجين أقول لكم ..... إنكم هنا وهنا
وأشار إلى صدره ثم إلى رأسه وخرج على وجهه
ابتسامة حبور صادقة واستشعر سعادة غريبة تهز أوتارا دقيقة في قلبه ولكنها ليس
سعادة صافية تماما وليست مرتاحة تماما، كأنما بسبح في سمائها سحابة خوف شفيف، ليس بذلك الخوف
المتحفز الذي يزعج والوجدان ويقلق راحة القلب وإنما هو خوف سعيد جميل محبوب، لم
يفهمه في البداية ولم يتبين أسبابه ولكنه سراعان ما تبدى له واضحا حين خطر له ذلك الخاظر صريحا فتوقف
قليلا ثم انقلب عائدا إلى الغرفة وهو يقول
في إشفاق وقد أحس في عينيه شيئا يشبه الاندار بالدموع:
ـ لم يبقى إلى القليل ويتفرق شمل الأصحاب ..!!
وطرق الباب ودفعه ودخل واتخد مكانه وجلس وزفر
زفيرا طويلا أخرج معه موجات من الغليان المحتذم في صدره، وقد لا حظ الأصحاب تغير
تعابير وجهه الذي اتخد شكلا عاطفيا مفعما وقد أحس بالكثير من الأسئلة على ألسنتهم
فقال بلهجة شبه حزينة:
ـ عدت لأملأ عنيني منكم .... أريد كأس
شائ
وخيم مناخ عاطفي على جو الغرفة وتبلور انسجام
وتفاهم وجدانيين على الأصحاب الأحباب ورحل بهم بعيدا بعيدا خارج دائرة المعتاد وكان
صاحبنا يتوقف من حين إلى حين ليتأمل أحد الأحباب للخظة أو لحظات ويقول في قرارة خاطره أي فراغ ستترك
بعد رحيلك يا صاحبي .....
إنها ديباجة أدبية رائعة، جميلة هي روحها .. وجوها.عقدت هنا إبهام الإخلاص على خاصرة الود وأبدعت في رسم صورة للصداقة في أرقى معانيها.. دمت الأثير !!
RépondreSupprimerهاجر أيتها الصديقة التي لا أعرفها هو قلبك الكبير المفطور على هذه المعناي المجبول على هذه المثل الذي يجعلك ترينها في هذه الصطور، إنك تتكلمين وتصفين نفسك ومعانيك وتصوراتك للحياة ... شكرا هاجر لمرورك ولكلمتك الحبوبة وأتمنى أن لا تنقطع الصلة وأرجو أن تتعمق
RépondreSupprimerسعدت حقا بقراءة معالم الجمال والرقة من كلماتك. شكرا لحروفك الغالية ...شكرا للزمن المُستقطع من أجل كلماتي... و أنا بدوري أرحب بصداقتك .
Supprimerإنه لشرف ما كنت لأحلم به يا هاجر
Supprimerمقال رائع اخ فؤاد، لكأني بذلك الصديق الذي اقفل راجعا من فرط شوقه. نعم المنن رفيق حسن صادق تانس به و تحن لمجالسته
RépondreSupprimerأمين إنها مفجأة كبيرة أن أجد اسمك هنا وتعليق رائع هههه ربما هي الغربة أوقدت في قلبك هذا الشعور الرائع الذي كان نائما هنا أو ربما كان متقدا لكنك أخفيته بمهارة... شكرا أمين للزيارة وشكرا للتعليق وشكرا للكلمة الرائعة
Supprimer